رسالة من: محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد..
فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود، وبأرقى وأشمل نظامٍ لتطوير الحياة وإسعاد الخلق، وعمل على هداية البشرية كلها إلى هذا الخير، وتبليغه إلى أسماعها وإلى قلوبها، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم يعرض حقائقه على الناس، فقبلته العقول السليمة، وانجذبت إليه الفِطَر المستقيمة، فقامت قيامة الجاهلية وأجلبت بخيلها ورجلها، ولم تدَع نقيصةً إلا حاولت إلصاقها بالدعوة والداعية صلى الله عليه وسلم؛ في خصومة فاجرة، وحرب قذرة مناقضة للأخلاق النبيلة، ولكنَّ جلالَ الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وجمالَ المبادئ التي نادى بها، وحاجةَ البشرية إلى المنهاج والأخلاق التي قدمها؛ دفعت العقلاء إلى الإيمان به، فاندفعت الجاهلية في نصرة باطلها إلى حرب وجودية ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ (ص: 6)، ولم تزَل حربُهم على الإسلام قائمةً حتى ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء: من الآية 81)، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ولم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد دانت الجزيرة العربية كلها بدين الحق، واستظلَّت بظلال التوحيد والعدل.
فلمَّا تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعت على الإسلام محنٌ وخطوبٌ لم تجتمع من قبل، فقد ارتدَّت العرب، ونَجَمَ النفاق، وحزن المسلمون حزنًا شديدًا لفقد نبيِّهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوِّهم، فتماسك المسلمون وعلى رأسهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وصبروا وقاموا بأعباء الدعوة إلى الله خيرَ قيام، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "أينقصُ الدينُ وأنا حي؟!"، وأبى المسلمون أن يستسلموا لهذه الحوادث ويخذلوا الدعوة، فلم يحافظوا على وضع الإسلام فقط، بل فتحوا فارس والروم.
وتبعهم على ذلك أجيال المسلمين من بعدهم، فحملوا الإسلامَ إلى كل مكان، وصحَّحوا المفاهيم، ونشروا في الدنيا الخير والنور، وأُوذوا أشدَّ الإيذاء، فتحمَّلوا ذلك كلَّه في سبيل الله، حتى كَتَبَ الله لهم النصر والتمكين.
الدعاة يدركون طبيعة الطريق
يُدرك الدعاة إلى الله- وفي القلب منهم الإخوان المسلمون- أن الطريق إلى هداية الناس وشيوع الخير ونشر الفضيلة في الدنيا؛ سيواجِه من الصعوبات والعوائق ما واجَه الأنبياء والصالحين من قبل، فالرسالة هي الرسالة، والضلالات والأهواء هي هي، والعقبات هي العقبات، والقوى الطاغية لا تزال تقوم دون الناس ودون الدعوة، وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة.
والقرآن يُذكِّر المسلم الصادق بأن الفتنةَ والابتلاء قَدَرٌ لازم ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ (الأنعام: من الآية 53)، وله هدفٌ واضحٌ، وهو تمييزُ الخبيث من الطيب ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)﴾ (محمد)، ولا سكنَ في الجنة إلا لمن صبرَ على هذا الابتلاء ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)﴾ (آل عمران)، ومن ثَمَّ فلا مناصَ أمام حَمَلَةِ رسالة الخير ومشاعل النور من الحلمِ والصبرِ والاحتسابِ، فللباطل جولةٌ ثم يذهب هباءً، والحق له صولةٌ وهو أنفع، وله الثبات والبقاء، فإذا اشتدَّ الأذى وكثُر التهديد لجأ المؤمنون إلى حصن التوكل على الله والصبر على الأذى، وشعارهم: ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)﴾ (إبراهيم).